قصر الذاكرة The method of loci، كيف تتذكر أي شئ بواسطة هذه النظرية؟


نظرية قصر الذاكرة تعتمد على التخيل والتصوير بالدرجة الأولى لكن قبل استعراض كافة التفصيل المتعلقة بها تعالوا سوياً لنتعرف على تاريخ نشأة هذه النظرية.

هذه النظرية مصدرها قصة اسطورية بطلها الشاعر الإغريقي الشهير سيمونيدس (556-468 ق.م)، وهو من أوائل الشعراء الذين استخدموا  الشعر كمصدر للكسب من خلال نظم قصائد المديح في الأمراء و الملوك وأعيان الناس، ذات يوم تلقى الشاعر الكبير دعوة من الملك سكوباس، ملك (ثيساليا)، وذلك لحضور حفل من الاحتفالات الكبيرة في القصر. وطبقاً لهذه الدعوة طلب من الشاعر سيمونيدس أن ينظم قصيدة لمدح الملك أمام المدعوين مقابل مبلغ كبير من المال.

لبى سيمونيدس الدعوة في الحال، وفي الموعد المحدد ذهب إلى القصر مصطحباً معه الرقعة المكتوب عليها القصيدة، كان القصر ممتلئ عن أخره بالأمراء والفرسان وأثرياء القوم. حينما رأى الملك الشاعر الكبير سيمونيدس أدناه من مجلسه وأمر الفرقة الموسيقى بالكف عن العزف وأمر الجواري ليتوقفن عن الرقص والغناء وذلك حتى يستمتع الجميع بقصيدة الشاعر العظيم، وبالفعل شرع سيمونيدس في إلقاء قصيدته.

كان من المفترض أن تكون القصيدة من أولها إلى أخرها في مديح الملك، إلا أن سيمونيدس قسم المديح بين الملك وبين (كاستور وبولُكس) وهما اثنين من ألهه روما المشهورين، فجاء نصف القصيدة الأول لتمجدهما والنصف الثاني خصص لمديح الملك، كان الملك يسمع الأبيات الأولى من القصيدة والغضب والضيق يملئان قسمات وجه، وبعد أن انتهى الشاعر الكبير من إلقاء القصيدة تقدم ناحية الملك وانحنى أمامه في انتظار أن يتعطف عليه بعطائه المتفق عليه، وكانت النتيجة المحزنة، فقد أعطاه الملك نصف المبلغ المتفق عليه وقال له هذا نظير الأبيات التي تخصني من القصيدة أم الباقي فاطلبه من الآلهة الذين مدحتهم.

أنفجر كل الحاضرين بالضحك وراح كل واحد من المدعوين يلقى بنكته ساخرة أو بعبارة تهكمية على ما صدر من سيمونيدس من قلة ذوق في حق الملك، شعر سيمونيدس بالخجل فانزوى في مكان بعيد من القاعة وجلس حزيناً منكسراً، ولم يرحمه من سخرية الناس وكلماتهم النابية إلا عندما أمر الملك الفرق الموسيقية بمعاودة العزف والغناء، وانشغل الحضور عن سيمونيدس بالجواري وهن يرقصن، وإلى المهرجين والعبيد وهم يأتون بغرائب الألعاب وعجائب الحركات.

كل من في القاعة كان يعيش في عالمه الخاص، منهم من كان يحتسي النبيذ، ومنهم من كان يجلس على المائدة الكبيرة يلتهم ما لذ وطاب من الوعول والخراف المشوية، الكل كان سعيداً مبتهجاً، معدا شخص واحد هو الذي كان يشعر الحزن والخزي والانكسار، هذا الشخص هو سيمونيدس، فكر في أن يغادر القصر لكن الملك لم يأذن له بعد لذا كان عليه أن ينتظر الإذن والا سينال تقريع أخر من الملك، في هذه الأثناء أتاه جندي من الحرس وأخبره بأن فارسين يريدانه في حديقة القصر في أمر خطير، حينما سمع سيمونيدس ذلك لم أسرع خارج القصر ليستطلع الأمر.

بعد خروجه لم يجد أي أثر لفارس خارج القصر، فتعجب مما صدر من الحارس، فكيف يكذب عليه ويخبره أن هناك من ينتظره  بالباب، هل إلى هذه الدرجة سقطت قيمة الشاعر الكبير، أحس سيمونيدس أن ما لاقاه من إهانة هذه الليلة يكفي بأن يجعله يعتزل الشعر والشعراء، وبينما هو واقف يفكر هكذا حدث شيء لم يكن في الحسبان، فقد إنهار القصر على كل من فيه وأمتلئ المكان بالغبار وسمع عويلاً وصراخاً في كل أنحاء المدينة، لم ينجو أحد من المدعوين سوى هذا الشاعر الذي أدرك في نهاية الأمر أن الفارسين الذين كان يسألان  عنه ما هما إلا كاستور وبولوكس أبناء الآلهة، وقد اتوا لإنقاذه مكافئة له نظير تمجيده لهما في قصيدته.

بعد انهيار القصر بساعات ذهب أهالي الضحايا إلى المكان لرفع الأنقاض من أجل التعرف على جثث ذويهم، لكنهم لم يستطيعوا التعرف عليها نظراً لضياع معالمها وتناثر أشلائها في كل مكان، فطلبوا من الشاعر الكبير سيمونيدس أن يساعدهم في التعرف على الجثث كونه الناجي الوحيد في هذه الحادثة المروعة.

راح سيمونيدس يتخيل حال القصر قبل الانهيار، وفجأة وقفت جدران القصر من جديد وارتفعت الأعمدة مرة أخرى، وارتفعت الأحجار فوق بعضها البعض، وأستوى القصر كما كان، رسم سيمونيدس صورة كاملة للمكان في صورته الأولى قبل الانهيار،  فهنا كان يجلس فلان وعند هذا العمود كان يقف فلان، وعلى المائدة كان يجلس فلان وبجواره جاريتين شقراوتين، وبجوار الملك كان يجلس فلان وفلان، ظل سيمونيدس يتذكر ويتذكر حتى جاوز عدد الأسماء التي تذكرها الألفين، ومن هذه اللحظة وضع سيمونيدس الأسس الأولى لنظريته التي طورت فيما بعد وعرفت بنظرية القصر.

خطوات تطبيق نظرية القصر:

والآن وبعد سماع هذه القصة تعالوا سوياً نتعرف على خطوات تطبيق هذه النظرية:

1- اختيار القصر

: تخيل مبنى ما، أي مبنى، ممكن أن يكون هذا المبنى من صنع خيالك صرفاً أو يكون موجود بالفعل في الواقع، لكن معظم الخبراء يفضلون أن تتخيل مبنى يكون موجود بالفعل في الواقع تعرفه جيداً بكل تفاصيله تمام المعرفة، قد يكون هذا المكان غرفة نومك، أو بيتك أو مدرستك الابتدائية، أو حتى مدينتك أو قريتك، فكلما كبرت مساحة المكان كلما كثرت كمية المعلومات المخزنة فيه.

2- حدد طريق الانطلاق

لكي تتذكر الأشياء بالترتيب، عليك أن تحدد طريق تسير فيه للوصول إلى المبنى الذي وقع اختيارك عليه، هذا الطريق يجب أن يكون معلوماً بالنسبة لك مثله في ذلك مثل المبنى الذي أخترته، فمثلاً لو اخترت أن تكون غرفة نومك هي قصر ذاكرتك، فعليك أن تختار الطريق الذي ستسير فيه حتى تصل إلى غرفة النوم، مثلاً تختار الممر بين الصالة وغرفة النوم.

3- تحديد المخازن

بعد تحديد الطريق عليك أن تسير فيه (بخيالك طبعاً) إلى أن تصل إلى المبنى الذي اخترته من قبل (غرفة النوم)، وبعد وصولك هناك حاول أن تتفقد المكان جيداً مستكشفاً الأماكن التي توجد بداخله والتي ستخزن بها المعلومات، هذه الأماكن قد تكون: درج، أو دولاب أو خزينة.. الخ، المهم أن تجعل كل مخزن مختلف ومميز عن الأخر حتى لا تتداخل المعلومات مع بعضها البعض في المستقبل.

4- تدقيق قصر ذاكرتك:

قبل الخوض في تطبيق النظرية عليك أن تجلس مع نفسك قليلاً لكي تتخيل المكان الذي اخترته ليكون قصر لذاكرتك، يجب أن تدققه جيداً وتحفظ كل بقعه فيه، حتى لو اضررت لأن ترسم خريطة أو مخطط مبدئي للمكان، ولعمل ذلك جيداً ارسم خريطة على ورقة للمكان بكل تفاصيله وخباياه وبعد ساعة أو ساعتين تخيل المكان في ذاكرتك ثم بعد ذلك قارن بين ما تخيلته وما رسمته على الواقع لتتأكد من أن الصورتين متطابقتين مع بعضهما البعض.

5- حفظ المعلومات في المخازن

نأتي الأن للخطوة العملية وكيفية حفظ المعلومات داخل القصر الذي اخترته، لنفرض أنك أخترت منزلك ليكون قصر لذاكرتك وأن عليك حفظ بضعة أبيات من الشعر لتقولها غداً في خطاب مدرسي، ، أولاً ضع أول بيت من الشعر تحت عتبة الباب، والثاني في الصالة، والثالث في غرفة الجلوس والرابع في وعاء من أوعية المطبخ…الخ. قم بوضع كل بيت في مكان مختلف ومميز عن الأخر. لا تضع أكثر من معلومة في مكان واحد، تقيد بالترتيب المتلازم مع طريق الانطلاق الذي ذكرناه في الخطوة رقم 2، بحيث يكون القول المأثور الثاني محفوظ في مكان يقع ترتيبه بالفعل بعد المكان المحفوظ فيه القول المأثور رقم 1. وهكذا الثاني يليه الثالث، والثالث يليه الرابع…. الخ.

6- استخدم الرمزية

ليس من الضروري أن تضع كامل المعلومة التي تود تذكرها في المخزن، قد يكون هذا الأمر غير مثمر وغير عملي في بعض الأحيان، يفضل أن تضع صورة رمزية للمعلومات الكبيرة، أي رمز يحث ذاكرتك ويستفذها، فمثلاً تود مثلي أن تتذكر أن مذبحة القلعة وقعت عام 1811، فيمكنك أن تضع على وسادة نومك شارب محمد على باشا الشهير وبجواره سيف وثمانية خناجر وأحدى عشر بندقية (1811). بالطبع هذه الصورة الرمزية ليست حتمية لكنها مفضلة وخاصة مع التواريخ والأرقام.

7- كن مبدعاً وخفيف الظل

استخدم قدرتك الإبداعية أثناء حفظ المعلومات في القصر، أضف للمعلومات المجردة الكئيبة شيء من المرحة والفكاهة، تذكر قصيدة محمود سامي البارودي التي ذكرتها كمثال في المقال السابق، فقد تخيلت أن أحد الفتية يجلس في المطبخ، وبيده حقيبة كبيرة يجمع فيها كل أولاني المطبخ الخاصة بنا، وأثناء قيامه بذلك يقع عليه رف من الرفوف فيصيبه بجرح خفيف في راسه، بالطبع ستتخيل هذا الموقف لكي تحفظ الأبيات التالية:

يود الفتى أن يجع الأرض كلها إليه … ولما يدر ما الله صانع

فقد يستحيل المال حتفاً لربه… وتأتي على أعقابهن المطامع

8- استكشاف القصر للمرة الأخيرة

بعد حفظ المعلومات استكشف القصر الخاص بك مرة أخرى قبل النوم وبعد ذلك استيقظ في الصباح ستجد نفسك متذكر كل المعلومات مهما كانت كثرتها بفضل الله، وربما تحتاج كورس في المستقبل عن كيفية نسيان بعض المعلومات!!!

كلما تريد تذكر أي معلومة استخدم القصر الخاص بك، بكل بساطة امشي في الطريق المحدد وتفقد القصر وما به من مخازن، فمثلاً لتذكر الخطاب المدرسي الذي ذكرناه سابقاً، ما عليك إلا أن تفتح الباب وتبدأ في تفقد الصالة وغرفة الجلوس وهكذا.

9- شيد قصور جديدة

بعد امتلاء هذا القصر يمكنك بناء قصر آخر لمعلومات جديدة، أو تفريغ القصر القديم مما به من معلومات إن لم تعد بحاجة إليها، فبعد الانتهاء من الخطاب المدرسي ربما تجد نفسك لست بحاجة لتذكره مرة أخر، في هذه الحالة يمكنك إخلاء القصر مما به من معلومات قديمة لتجهزه لاستضافة معلومات جديدة.

تنويه: 1–  من الأفضل أن تقرأ أكثر عن هذه النظرية، وأفضل كتاب في هذا المجال من وجهة نظري هو كتاب بعنوان Moonwalking with Einstein، وأعتقد أنه غير مترجم للعربية مع الأسف. 2- بعد تعودك على هذه الطريقة لن تكون بحاجة لتطبيق كل هذا الروتين كل مرة، بل سيتعود عقلك الباطن على هذه الخطوات وسوف تلقائياً وبلا أدنى عناء من جانبك.

حسن محمد

حسن محمد

مترجم فوري، عمل لدى العديد من كبرى الشركات والمنظمات العالمية من أهمها شركة تيتان الأمريكية، بي سي آي اليابانية وشركة قطر للبترول القطرية، شرع في التدوين في عام 2008 كهواية ومع مرور الوقت اكتسب خبرة في مجال التسويق بالمحتوى والكتابة التسويقية copywriting ومن ثم تحولت الهواية إلى مهنة مستقلة تهدف إلى تقديم الجودة والاحترافية في مجال التسويق الالكتروني وبخاصة في مجالي التسويق بالمحتوى والكتابة التسويقية، يعمل معه الآن فريق عمل محترف من المترجمين والمسوقين الإلكترونيين.

موضوعات أخرى قد تهمك

ضع تعليقك

Your email address will not be published. Required fields are marked

  1. اخى انا تعرفت علي الموضوع عندك فى المدونه ولكن الكتاب الذى زكرت صعب الترجمه فهل يوجد كتب تركز على الموضوع بشكل افضل وتكون مجانيه اخى لانى اتمنى اتقان هذه الطريقه

  2. جميل جدًا .. واستمتعت حقًا ..
    كنت قد عرفت عن هذه النظرية من خلال متابعتي لمسلسل ” sherlock ” وعند البحث وجدت هذا المقال الرائع جدًا .. المقال في 2011 , وقد ذكرتَ فيه بأنه لا يوجد أي كتاب بالعربي يختص بهذا الأمر .. الآن, وبعد ما يقارب الأربع سنوات .. هل هناك عربيًا ما قد يفيد من كتب أو مقالات أو مقاطع فيديو ؟ .. لأني لم أجد للحظة !
    بعض مقاطع الفيديو الإنجليزية تركّز على لزوم أن يكون المكان معروفًا لديك, فهل بالضرورة ذلك ؟
    أم أبني قصورًا خاصة بي وأضع فيها ما أريد ؟

    عمومًا, أشكرك جدًا والله على هذا المقال الرائع .. استفدت وسابدأ بتطبيقها إن شاء الله ..

    1. معرفة المكان أمر هام جداً لأنك ستعتمد على الغرف بالترتيب أثناء التذكر، يمكن أن تبني مكان في خيالك لكن من يضمن أنك لن تنسي تفاصيله بعد فترة من الزمن؟ إن ضمنت ذلك، فلما لا؟ يمكن بالطبع.

  3. أهلا محب
    عزيزي اكتشفت هذه الطريقة عن طريق الصدفة, فبحثت في الإنترنت لأجد معلومات عنها فوجدت الكثير من المواقع والكتب الإنجليزية التي تتحدث عنها, لكن للأسف لم اسمع ولم أقرأ عنها بالعربي,
    بخصوص التفاصيل الأخرى, نظرية القصر اسمها نظرية المكان او نظرية الذاكرة أي أنها تعتمد على المكان بالدرجة الأولى, لكن هناك العديد من التفاصيل الأخرى التي تجعل ممارسة هذه الطريقة أكثر فاعليها, فهناك مثلاً مكان معين يفضل أن تبنيه إذا اردت تذكر الأرقام أو التواريخ, وهناك مكان أخر لتذكر القصائد الشعرية, وأخر لتذكر المعادلات العلمية…الخ
    لكن بوجه عام قواعد النظرية الأساسية قد تناولتها في هذا المقال بالتفصيل ويمكن تطبيقها على أي عملية تذكر
    تحياتي

  4. أهلا حسن : –

    بصراحة ، المقال فى غاية الروعة ، وفى الحقيقة لا أدرى أين مراكز الترجمة فى الدول العربية ، لا أدرى على الاطلاق ، لأنه ان لم تذكر أنت هذه النظرية هنا ، لكنت أنا فى المستقبل غير عارف لها .
    لكن هنا النظرية اقتصرت على تفاصيل الأمكنة ، هل هناك شيئا آخر ؟
    تحياتى لحضرتك .

  5. جزاك الله كُل خير أخي حسن فعلاً أستمتعت جداً بالقصة … وأستفدت ايضاً أحد طرق الإسترجاع للمعلومات وتقوية الروابط للمعلومات بهذه الطريقة الممتعه .. اضافة الى ذلك لابد وانت تسترجع تلك المعلومات وتقوي ذاتك لابد ان تكون بحالة هادئة وشبه مسترخي
    شكراً 🙂

    1. أهلاً بك مجدداً, وجزاك الله كل الخير
      هو الموضوع مشهور ومعروف في الغرب لكن ربما لم ينشر عنه من قبل في الوطن العربي, الحمد لله الذي وفقني إلى هذا
      شكراً مرة ثانية على المرور

  6. أهلاً أخ علاء
    شكراً على تعليقك الطيب والحمد لله الذي أعجبك المقال… لا تنسى أن تضع المدونة في أحد أماكن قصر ذاكرتك حتى لا تنساها !!! مزحة بالطبع
    تحياتي

  7. ما شاء الله، بصراحة استمتعت جداً بقراءة الموضوع لأني كنت أول مرة أسمع عن النظرية دى وهحاول أطبقها إن شاء الله، عندي حاجات كتير عايزه تتحفظ
    شكراً لحضرتك جداً

{"email":"Email address invalid","url":"Website address invalid","required":"Required field missing"}